فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {نَبِّىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم}
سبب نزولها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يضحكون، فقال: «تضحكون وبين أيديكم الجنة والنار» فشق ذلك عليهم، فأنزل الله تعالى: {نَبِّىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم}
قوله عز وجل: {قالوا لا توجل} أي لا تخف، ومنه قول معن بن أوس:
لعمرك ما أدري وأني لأوجل ** على أينا تعدو المنيةُ أوّلُ

{إنّا نبشِّرك بغلامٍ عليم} أي بولد هو غلام في صغره، عليم في كبره، وهو إسحاق.
لقوله تعالى: {فضحكت فبشرناها بإسحاق}.
وفي {عليم} تأويلان:
أحدهما: حليم، قاله مقاتل.
الثاني: عالم، قاله الجمهور.
فأجابهم عن هذه البشرى مستفهمًا لها متعجبًا منها {قال أبَشّرتموني على أن مسنيَ الكبر} أي علو السن عند الإياس من الولد.
{فبم تبشرونَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه قال ذلك استفهامًا لهم، هل بشروه بأمر الله؟ ليكون أسكن لنفسه.
الثاني: أنه قال ذلك تعجبًا من قولهم، قاله مجاهد.
{قالوا بشرناك بالحقّ} أي بالصدق، إشارة منهم إلى أنه عن الله تعالى.
{فلا تكن مِنَ القانطين} أي من الآيسين من الولد. اهـ.

.قال ابن عطية:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)}
و{نبىء} معناه أعلم، و{عبادي} مفعول بـ: {نبىء}، وهي تتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فـ: {عبادي} مفعول وأن تسد مسد المفعولين الباقيين واتصف ذلك وهي وما عملت فيه بمنزلة اسم واحد، ألا ترى أنك إذا قلت أعجبني أن زيدًا منطلق إنما المعنى أعجبني انطلاق زيد لأن دخولها إنما هو على جملة ابتداء وخبر فسدت لذلك مسد المفعولين.
قال القاضي أبو محمد: وقد تتعدى {نبىء} إلى مفعولين فقط ومنه قوله تعالى: {من أنبأك هذا} [التحريم: 3]، وتكون في هذا الموضع بمعنى أخبر وعرف، وفي هذا كله نظر، وهذه آية ترجية وتخويف، وروي في هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «لو يعلم العبد قدر عفو الله لنا تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» وروي في هذه الآية أن سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى جماعة من أصحابه عند باب بني شيبة في الحرم، فوجدهم يضحكون، فزجرهم ووعظهم ثم ولى فجاءه جبريل عن الله، فقال: يا محمد أتقنط عبادي؟ وتلا عليه الآية، فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأعلمهم.
قال القاضي أبو محمد: ولو لم يكن هذا السبب لكان ما قبلها يقتضيها، إذ تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة فأكد تعالى تنبيه الناس بهذه الآية.
{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}
قرأ أبو حيوة {ونبهُم} بضم الهاء من غير همز، وهذا ابتداء قصص بعد انصرام الغرض الأول، و{ضيف} مصدر وصف به فهو للواحد والإثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد كعدل وغيره، قال النحاس وغيره: التقدير عن أصحاب ضيف.
قال القاضي أبو محمد: ويغني عن هذا أن هذا المصدر عومل معاملة الأسماء كما فعل في رهن ونحوه، والمراد بـ: الضيف هنا الملائكة الذين جاؤوا لإهلاك قوم لوط وبشروا إبراهيم، وقد تقدم قصصهم، وقوله: {سلامًا} مصدر منصوب بفعل مضمر تقديره سلمنا أو نسلم سلامًا، والسلام هنا التحية، وقوله: {سلامًا} حكاية قولهم فلا يعمل القول فيه، وإنما يعمل إذا كان ما بعده ترجمة عن كلام ليس يحكى بعينه كما تقول لمن قال لا إله إلا الله قلت حقًا ونحو هذا وقوله: {إنا منكم وجلون} أي فزعون، وإنما وجل إبراهيم عليه السلام منهم لما قدم إليهم العجل الحنيذ فلم يرهم يأكلون، وكانت عندهم العلامة المؤمنة أكل الطعام، وكذلك هو في غابر الدهر أمنة للنازل والمنزول به، وقرأ الجمهور {لا توجل} مستقبل وجل، وقرأ الحسن {لا تُؤجل} بضم التاء على بناء الفعل للمفعول من أوجل، لأن وجل لا يتعدى، وكانت هذه البشارة بإسحاق، وذلك بعد مولد إسماعيل بمدة، وقول إبراهيم {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق} [إبراهيم: 39]، وليس يقتضي أنهما حينئذ وهبهما بل قبل الحمد بكثير، وقرأ الجمهور {أبشرتموني} بألف الاستفهام، وقرأ الأعرج {بشرتموني} بغير ألف، وقوله: {على أن مسني الكبر}، أي في حالة قد مسني فيها الكبر، وقرأ ابن محيصن {الكُبْر} بضم الكاف وسكون الباء، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي {تُبشرونَ} بفتح النون التي هي علامة الرفع، والفعل على هذه القراءة غير معدى، وقرأ الحسن البصري {تبشروني} بنون مشددة وياء، وقرأ ابن كثير بشد النون دون ياء، وهذه القراءة أدغمت فيها نون العلامة في النون التي هي للمتكلم موطئة للياء، وقرأ نافع {تبشرونِ} بكسر النون، وغلط أبو حاتم نافعًا في هذه القراءة، وقال إن شاهد الشعر في هذا اضطرار.
قال القاضي أبو محمد: وهذا حمل منه، وتقدير هذه القراءة أنه حذفت النون التي للمتكلم وكسرت النون التي هي علامة الرفع بحسب الياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها، ونحو هذا قول الشاعر أنشده سيبويه: الوافر:.
تراه كالثغام يعل مسكًا ** يسوء الفاليات إذا فليني

ومنه قول الآخر:
أبالموت الذي لابد أني ** ملاق لا أباك تخوفيني

ومن حذف هذه النون قول الشاعر:
قدني من نصر الخبيبين قدي

يريد عبد الله ومصعبًا ابني الزبير، وكان عبد الله يكنى أبا خبيب، وقرأ الحسن {فبم تَبشُرون} بفتح التاء وضم الشين، وقول إبراهيم عليه السلام {فبم تبشرون} تقرير على جهة التعجب والاستبعاد لكبرهما، أو على جهة الاحتقار وقلة المبالاة بالمسرة الدنيوية لمضي العمر واستيلاء الكبر. قال مجاهد: عجب من كبره ومن كبر امرأته، وقد تقدم ذكر سنة وقت البشارة، وقولهم {بشرناك بالحق} فيه شدة ما، أي بشر بما بشرت به ودع غير ذلك، وقرأ جمهور الناس {القانطين} والقنوط: أتم اليأس، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وابن مصرف ورويت عن عمرو {القنطين}، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة، {من يقنَط} بفتح النون في كل القرآن، وقرأ أبو عمرو والكسائي {ومن يقنِط} بكسر النون، وكلهم قرأ من {بعد ما قنطوا} [الشورى: 28]. بفتح النون، ورد أبو عبيدة قراءة أهل الحرمين وأنكر أن يقال قِنط بكسر النون، وليس كما قال لأنهم لا يجمعون إلا على قوي في اللغة مروي عندهم، وهي قراءة فصيحة إذ يقال قَنَط يقنَط يقنِط مثل نَقَم ونقِم، وقرأ الأعمش هنا {يقنِط} بكسر النون، وقرأ {من بعد ما قنطوا} [الشورى: 28]. بكسر النون أيضًا، فقرأ باللغتين، وقرأ الأشهب {يقنُط} بضم النون وهي قراءة الحسن والأعمش أيضًا وهي لغة تميم. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم}
سبب نزولها ما روى ابن المبارك بإسناد له عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «طلع علينا رسول الله من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة، ونحن نضحك، فقال: ألا أراكم تضحكون؟ ثم أدبر، حتى إِذا كان عند الحِجر، رجع إِلينا القهقرى، فقال: إِني لمَّا خرجت، جاء جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد، يقول الله تعالى: لم تقنِّط عبادي؟ {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم}». وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو بتحريك ياء {عباديَ} وياء {أنيَ أنا}، وأسكنها الباقون.
قوله تعالى: {ونبئهم عن ضيف إِبراهيم} قد شرحنا القصة في [هود: 69]، وبيَّنَّا هنالك معنى الضيف والسبب في خوفه منهم، وذكرنا معنى الوَجَل في [الأنفال: 2].
قوله تعالى: {بغلام عليم} أي: إِنه يبلغ ويعلم.
قوله تعالى: {قال أبشَّرتموني}
أي: بالولد {على أن مسَّني الكِبَرُ} أي: على حالة الكِبَر والهرم {فبم تُبشِّرونَ} قرأ أبو عمر، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: {تُبشِّرونَ} بفتح النون.
وقرأ نافع بكسر النون، ووافقه ابن كثير في كسرها، لكنه شددها.
وهذا استفهام تعجب، كأنه عجب من الولد على كِبَرِه.
{قالوا بشَّرناك بالحق} أي: بما قضى الله أنه كائن {فلا تكن من القانطين} يعني: الآيسين.
{قال ومن يقنط} قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: {ومن يقنَط} بفتح النون في جميع القرآن.
وقرأ أبو عمرو، والكسائي: {يقنِط} بكسر النون.
وكلهم قرؤوا {من بعد ماقَنَطوا} [الشورى: 28]. بفتح النون.
وروى خارجة عن أبي عمرو {ومن يقنُط} بضم النون.
قال الزجاج: يقال: قنِط يقنَط، وقنَط يقنِط، والقُنوط بمعنى اليأس، ولم يكن إِبراهيم قانطًا، ولكنه استبعد وجود الولد. اهـ.

.قال القرطبي:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
هذه الآية وزانُ قوله عليه السلام: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنِط من رحمته أحد» أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
وقد تقدّم في الفاتحة.
وهكذا ينبغي للإنسان أن يذكّرنفسه وغيره فيخوّف ويرجّى، ويكون الخوف في الصحة أغلب عليه منه في المرض.
وجاء في الحديث: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج على الصحابة وهم يضحكون فقال: أتضحكون وبين أيديكم الجنة والنار» فشق ذلك عليهم فنزلت الآية.
ذكره الماورديّ والمهدويّ. ولفظ الثعلبيّ عن ابن عمر قال: «اطّلع علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شَيْبة ونحن نضحك فقال: ما لكم تضحكون لا أراكم تضحكون. ثم أدبر حتى إذا كان عند الحِجْر رجع القهقرى فقال لنا: إني لما خرجت جاءني جبريل فقال يا محمد لم تُقنّط عبادي من رحمتي {نبّىء عِبادي أني أنا الغفور الرحِيم وأن عذابِي هو العذاب الألِيم}» فالقنوط إياس، والرجاء إهمال، وخير الأمور أوساطها.
قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}
ضيفُ إبراهيم: الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط. وقد تقدّم ذكرهم.
وكان إبراهيم عليه السلام يكنى أبا الضيفان وكان لقَصْره أربعة أبواب لكيلا يفوته أحد.
وسمي الضيف ضيفًا لإضافته إليك ونزوله عليك. وقد مضى من حكم الضيف في هود ما يكفي والحمد لله.
{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والجمع والتثنية والمذكر والمؤنث كالمصدر.
ضافه وأضافه أماله؛ ومنه الحديث: «حين تَضيف الشمس للغروب»، وضيفوفة السهم، والإضافة النحوية.
{فَقَالُواْ سَلامًا} أي سلَّموا سلامًا.
{قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي فزعون خائفون، وإنما قال هذا بعد أن قرّب العجل ورآهم لا يأكلون، على ما تقدّم في هود.
وقيل: أنكر السلام ولم يكن في بلادهم رسم السلام.
{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} أي قالت الملائكة لا تخف.
{إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي حليم؛ قاله مقاتل.
وقال الجمهور: عالم.
وهو إسحاق.
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} {أنْ} مصدرية؛ أي على مس الكبر إياي وزوجتي، وقد تقدّم في هود وإبراهيم؛ حيث يقول: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} استفهام تعجب.
وقيل: استفهام حقيقي.
وقرأ الحسن {تُوجل} بضم التاء.
والأعمش {بشرتمونِي} بغير ألف، ونافع وشيبة {تُبَشِّرونِ} بكسر النون والتخفيف؛ مثل {أتحاجّونِي} وقد تقدّم تعليله.
وقرأ ابن كَثير وابن محيصِن {تُبَشِّرُونِّ} بكسر النون مشدّدة، تقديره تبشرونني، فأدغم النون في النون.
الباقون {تُبشرون} بنصب النون بغير إضافة.
قوله تعالى: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} أي بما لا خلف فيه، وأن الولد لابد منه.
{فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} أي من الآيسين من الولد، وكان قد أيس من الولد لفرط الكبر.
وقراءة العامة {مِن القانِطِين} بالألف.
وقرأ الأعمش ويحيى بن وَثّاب {من القنطين} بلا ألف.
وروي عن أبي عمرو.
وهو مقصور من {القانطين}.
ويجوز أن يكون من لغة من قال: قَنِط يَقْنَط؛ مثل حذِر يحذر.
وفتح النون وكسرها من {يقنِط} لغتان قرئ بهما.
وحكي فيه {يقنُط} بالضم.
ولم يأت فيه {قنَط يَقنَط}.
{و} من فتح النون في الماضي والمستقبل فإنه جمع بين اللغتين، فأخذ في الماضي بلغة من قال: قنَط يقنِط، وفي المستقبل بلغة من قال: قنِط يقنَط؛ ذكره المهدوّي.
{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)} أي المكذبون الذاهبون عن طريق الصواب.
يعني أنه استبعد الولد لكِبر سنه لا أنه قنط من رحمة الله تعالى. اهـ.